سورة المدثر - تفسير التفسير الوسيط

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (المدثر)


        


{يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7) فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8) فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10)} [المدّثّر: 74/ 1- 10].
قال جمهور المفسرين: نودي بالمدثّر، لما ورد في البخاري من أنه صلّى اللّه عليه وسلّم لما فرغ من رؤية جبريل عليه السّلام على كرسي بين السماء والأرض، فرعب منه، ورجع إلى خديجة.
وهذه توجيهات أولية ضرورية ونافعة للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم بعد بدء الوحي، تشتمل على البدء بالإنذار، وتكبير اللّه، وتطهير نفسه وقلبه، والتّرفع عن محقّرات الأخلاق كإعطاء القليل لأخذ الكثير، والصبر في دعوته لربّه، وتذكّر هول يوم القيامة الشديد على الكافرين.
- وأول هذه التوجيهات: بدء التبليغ تبشيرا وإنذارا، فيا أيها النّبي الذي قد تدثّر بثيابه، أي تغطى بها رعبا من رؤية الملك عند نزول الوحي أول مرة: انهض بواجب الرسالة، وخوّف أهل مكة وجميع الخلق من عذاب اللّه ووقائعه بالأمم، إن لم يسلموا، وهو أمر بترك العزلة، والاستعداد للاختلاط ونشر الدعوة.
- وعظّم اللّه وصفه بالكبرياء، في عبادتك وكلامك وجميع أحوالك، فإنه أكبر من أن يكون له شريك، فالشّرك كفر وضلال، وسبب لغضب الرحمن، وتوحيد اللّه تعالى أساس دعوتك.
- وطهّر قلبك ونفسك من أدران المعصية، وثيابك واحفظها من النجاسات، لأن الإسلام دين الطّهر والنظافة، والصحة والنقاء، وهو دين الطهارتين: المعنوية الروحانية، والحسّية الجسدية. والآية دليل على تعظيم اللّه تعالى، وتنزيهه عما يقول عبدة الأوثان، وعلى نظافة الجسد والثياب، وتحسين الأخلاق، واجتناب المعاصي.
- واترك تركا أبديا الرّجز، أي الأصنام والأوثان، فلا تعبدها، فإنها سبب العذاب، واهجر جميع الأسباب والمعاصي المؤدية إلى العذاب الدنيوي والأخروي.
والآية دليل على وجوب الاحتراز من كبائر المعاصي كالشّرك أو الوثنية، بل وعن جميع المعاصي.
والنّهي عن جميع ذلك، لأنه القدوة الحسنة العليا، ولا يعني أنه يرتكب شيئا منها، وإنما يراد به تدوين مبدأ إسلامي عام هو هجر الوثنية، والدوام على الهجران.
ولا تمنن على أصحابك وغيرهم بتبليغ الوحي، مستكثرا ذلك عليهم، وإذا أعطيت أحدا شيئا من الأعطيات، فأعطها لوجه اللّه تعالى، ولا تمنّ بعطيتك على الناس، ولا تعط عطاء لتعطى أكثر منه.
وقال مجاهد: المعنى لا تضعف من الاستكثار من الخير، أو مما حمّلناك من أعباء الرسالة.
- واجعل صبرك على أذاهم لوجه ربّك عزّ وجلّ وطلب رضاه، فإنك حملت أمرا عظيما، ستحاربك العرب والعجم عليه، فاصبر على هذا الأمر لوجه اللّه، واصبر أيضا على طاعة اللّه وعبادته.
- اصبر على أذى قومك وغيرهم من الكفار، وعلى العبادة، وعن الشهوات، وعلى تكاليف النّبوة، فعاقبة الصبر منك النصر والفرج، وأمام الكفار يوم هائل يلقون فيه عاقبة أمرهم، فإذا نفخ في الصور النفخة الثانية للبعث من القبور، فوقت النقر يومئذ يوم شديد جدّا على الكفار، غير سهل عليهم. والناقور: الذي ينفخ فيه، وهو الصّور. ويوم عسير: فيه عسر في الأمور الجارية على الكفار، فوصف اللّه تعالى اليوم بالعسر، لكونه ظرف زمان له، وكذلك تجيء صفته باليسر.
أخرج ابن أبي حاتم، وابن أبي شيبة وأحمد عن ابن عباس رضي اللّه عنهما في قوله تعالى: {فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8)} قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «كيف أنعم، وصاحب القرن، قد التقم القرن، وحنى جبهته ينتظر متى يؤمر، فينفخ؟ فقال أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: فما تأمرنا يا رسول اللّه؟ قال: قولوا: حسبنا اللّه، ونعم الوكيل، على اللّه توكّلنا».
لقد جمعت هذه الآيات على وجازتها أمهات الفضائل، حيث جمعت بين أوامر العقيدة وتعظيم اللّه، وأوامر الدعوة وتبليغها، وأوامر العبادة والطاعة لله تعالى ومتطلباتها من طهارة القلب والنفس والثياب، ومثلها البدن والمكان من باب أولى، واجتناب الأوثان، وتحرير العقل من الشّرك، والتّخلق بالأخلاق الاجتماعية والعادات الإنسانية كترك إعطاء القليل وابتغاء الكثير، وتقويم النفس بكريم الخلق، وإصلاح البدن بهجر المآثم والمحارم. وهذه الأوامر لا تعني أن النّبي يفعل شيئا منها، وإنما هو من قبيل الاستمرار والمداومة على ما هو عليه من عبادة اللّه الواحد الأحد، والتّحلي بالأخلاق الكريمة، وهجر كل ما يغضب اللّه تعالى.
وعيد زعماء الشّرك:
في بدء الدعوة هدّد اللّه تعالى الوليد بن المغيرة وأمثاله من زعماء الشّرك، وآنس نبيّه بقوله في سورة المدّثّر: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً (11)} وقوله في سورة المزمّل: {وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا (11)} ثم عدّد سبحانه وتعالى نعمه الوفيرة على الوليد من المال والولد والجاه والرياسة، وكفره بها، ووعيده بنار جهنم لوصفه القرآن الكريم بأنه سحر، بل ومحاولة تحدّيه بمقاومة الملائكة، زبانية جهنم التسعة عشر. ويتبين ذلك في الآيات الآتية:


{ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مالاً مَمْدُوداً (12) وَبَنِينَ شُهُوداً (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلاَّ إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً (17) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقالَ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هذا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ (25) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ (27) لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ (28) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29) عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ (30) وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلاَّ مَلائِكَةً وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكافِرُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَما هِيَ إِلاَّ ذِكْرى لِلْبَشَرِ (31)} [المدّثّر: 74/ 11- 31].
أخرج الحاكم وصححه وابن جرير وابن أبي حاتم، عن ابن عباس أن الوليد ابن المغيرة جاء إلى النّبي صلّى اللّه عليه وسلّم، فقرأ عليه القرآن، فكأنه رقّ له، فبلغ ذلك أبا جهل، فأتاه، فقال: يا عم، إن قومك يريدون أن يجمعوا لك ما لا ليعطوكه، فإنك أتيت محمدا، لتتعرض لما قبله، قال: لقد علمت قريش أني من أكثرها مالا، قال: فقل فيه قولا يبلغ قومك أنك منكر له، وأنك كاره له، فقال: وماذا أقول؟ فو اللّه، ما فيكم رجل أعلم بالشعر مني ولا أعلم برجزه ولا بقصيده مني، واللّه ما يشبه الذي يقول شيئا من هذا، وو اللّه إن لقوله لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وإنه يعلو وما يعلى عليه، وإنه ليحطم ما تحته، قال: لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه، قال: فدعني أفكر فيه، فقال: «هذا سحر يؤثر» يأثره عن غيره، فنزلت: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً (11)}
والمعنى: دعني أنا، والذي خلقته حال كونه وحيدا في بطن أمه، لا مال له ولا ولد، أو دعني وحدي معه لا يشركني فيه أحد، فإني أكفيك في الانتقام منه. عرفنا أن هذه الآية نزلت في الوليد بن المغيرة المخزومي، الذي كان يلقب بالوحيد، لأنه لا نظير له في ماله وشرفه في بيته. فذكر الوحيد في الآية في جملة النّعم التي أعطيها، ولكن لم يثبت هذا. ومعنى قوله: {خَلَقْتُ وَحِيداً} معناه: منفردا ذليلا، فجعلت له المال والبنين.
وجعلت له مالا واسعا كثيرا، وبنين حضورا معه بمكة، لا يفارقونها ولا يسافرون بالتجارات في البلاد لطلب الرزق، لكثرة مال أبيهم، وبسطت له في العيش وطول العمر والرياسة في قريش، ومع كل هذا يطمع في زيادة المال والولد وغير ذلك، مما يدعو إلى التعجب. وهذا إنكار عليه، لشدة حرصه على الدنيا. فرد اللّه عليه: كلا: كلمة ردع وزجر، لا أزيده، إنه كان لآيات القرآن معاندا لها، كافرا بها، بعد العلم بصدقها. سأكلفه وأحمله مشقة من العذاب.
و{سَأُرْهِقُهُ}: أكلفه بمشقة وعسر، و{صَعُوداً} عقبة في نار جهنم.
إنه فكّر في شأن النّبي صلّى اللّه عليه وسلّم وفي القرآن العظيم، وهيّأ من الكلام في نفسه ما يقول، وتروى فيما يصف به القرآن حين سئل عنه، فلعن وعذّب، على أي حال قدر ما قدر من الكلام. وهذا كله تعجب واستعظام من موقفه، واستحقاقه مضاعفة العذاب، ثم أعاد النظر والتّروي والتأمّل في الطعن بالقرآن، ثم قطّب وجهه، لما لم يجد مطعنا يطعن به القرآن، وتغيّر وجهه، ثم أعرض عن الإيمان، وتكبّر عن الانقياد للقرآن، فقال: ما هذا إلا سحر ينقل ويحكى، هو قول (كلام) البشر، أي ليس منزلا من عند اللّه تعالى. وقوله: {فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19)} دعاء عليه على معنى تقبيح حاله. و(قتل) بمعنى لعنه أو عاداه، أو هو بمعنى التعجب من الشيء.
سأدخله النار، وسأغمره فيها من جميع جهاته، وسقر: من أسماء النار، ثم أي شيء أعلمك ما سقر؟ لا تبقي من الدم واللحم والعظم شيئا، فإذا أعيد أهلها خلقا جديدا، فلا تتركهم، بل تعاود إحراقهم بأشد مما كانت، وهكذا أبدا. وهي أي جهنم تلوح للناس حتى يرونها عيانا، وعليها زبانية أشداء، من الملائكة عددهم تسعة عشر شخصا، أخرج ابن أبي حاتم والبيهقي في البعث وابن مردويه عن البراء: أن رهطا من اليهود سألوا رجلا من أصحاب النّبي صلّى اللّه عليه وسلّم عن خزنة جهنم، فجاء، فأخبر النّبي صلّى اللّه عليه وسلّم، فنزل عليه ساعتئذ: {عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ (30)}.
ولم نجعل خزنة النار وزبانيتها القائمين بالتعذيب إلا ملائكة غلاظا شدادا، ولم نجعلهم رجالا تمكن مغالبتهم، ولم نجعل عددهم تسعة عشر إلا اختبارا منّا للناس، وسبب محنة وإضلال للكافرين، حتى قالوا ما قالوا، ليتضاعف عذابهم، وقوله: { فِتْنَةً} أي سبب فتنة للكفار، وفتنتهم: كونهم أظهروا مقاومتهم، والطمع في مغالبتهم، وذلك على سبيل الاستهزاء، فإنهم مكذّبون بالبعث وبالنار وبخزنتها.
وجعل اللّه هذا العدد ليتيقن أهل الكتاب (وهم اليهود والنصارى) أن الرسول حق، فإنه جاء ناطقا بما يطابق كتبهم السماوية السابقة، فإن فيها أن عدّة خزنة جهنم تسعة عشر، ولكي يزداد إيمان المؤمنين، ولا يشك أهل الكتاب من اليهود والنصارى والمؤمنون بالله تعالى ورسوله، في صحة وحقيقة هذا العدد وفي دين اللّه، وليقول المنافقون الذين في قلوبهم شكّ وريب، في صدق النّبي صلّى اللّه عليه وسلّم، ومعهم الكافرون من أهل مكة وغيرهم: أي شيء أراد بهذا العدد المستغرب استغراب المثل، وما الحكمة في ذكر هذا العدد هنا؟ مثل ذلك المذكور من الإضلال والهداية، يضلّ اللّه من يريد، بخذلانه عن إصابة الحق، لسوء استعداده، ويهدي إلى الحق والإيمان من يريد، بتوفيقه إلى الصواب، وليس في ذلك إجبار على الضلالة والهدى، لمنافاته للعدل الإلهي. وما يعلم أنصار اللّه وأعوانه إلا اللّه وحده، وما سقر وصفتها إلا تذكرة وعظة للناس، ليعلموا كمال قدرة اللّه.
روي أن الحارث بن كلدة الجمحي قال: أنا أكفيكم سبعة عشر، واكفوني أنتم اثنين، فنزل قوله تعالى: {وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً} أي لم نجعلهم رجالا تستطيعون مغالبتهم.
التّحذير من إنكار جهنم ووصف أهلها:
ردّ اللّه تعالى على الكافرين الذين لا يؤمنون بالبعث، وعلى أنواع الطاعنين على الحقّ وأحوال أهل النار، فإن الجنة حق والنار حق، وكل إنسان مسئول عن نفسه لا عن غيره، ويتساءل أصحاب اليمين في الجنة عن سبب دخول المجرمين النار، فيذكر لهم السبب من الآن في الدنيا: وهو إعراضهم عن الإيمان وعن أداء الفرائض وعن إطعام المساكين، وإعراضهم ناشئ من التكبّر والأنفة، وتظل جهنم إنذارا كافيا لمن أراد التقدم إلى الخير والطاعة، وهذا ما أوضحته الآيات الآتية:


{كَلاَّ وَالْقَمَرِ (32) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (33) وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ (34) إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ (35) نَذِيراً لِلْبَشَرِ (36) لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (37) كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) إِلاَّ أَصْحابَ الْيَمِينِ (39) فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41) ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ (47) فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ (48) فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (51) بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً (52) كَلاَّ بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ (53) كَلاَّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (54) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (55) وَما يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (56)} [المدّثّر: 74/ 32- 56].
قوله: {كَلَّا} ردّ على الكافرين والطاعنين على الدين الحق، ومفاد الرّد: أني أوجه تحذيرا رادعا لكم أيها الناس، فلا سبيل لإنكار وجود النار في الآخرة، وأقسم بالقمر، وبالليل إذا مضى وولّى ذاهبا، وبالصّبح إذا ظهر وأضاء قبل طلوع الشمس بكثير، إن سقر (وهي جهنم) لإحدى الدّواهي العظام، لإنذار البشر وتخويفهم من عقاب الله تعالى على العصيان.
- وإن جهنم إنذار واضح لمن أراد أن يتقدم إلى الخير والطاعة، أو إلى الجنة بالإيمان، أو يتأخّر عن ذلك إلى الشّرّ والمعصية أو إلى النار، لإنذار البشر من عقاب الله على العصيان. قال ابن عباس: هذا تهديد وإعلام أن من تقدم إلى الطاعة والإيمان بمحمد صلّى اللّه عليه وسلّم، جوزي بثواب لا ينقطع، ومن تأخّر عن الطاعة وكذّب محمدا صلّى اللّه عليه وسلّم، عوقب عقابا لا ينقطع.
وقال الحسن البصري: لا نذير أدهى من النار.
ليس لكل امرئ إلا جزاء عمله، فكل نفس مأخوذة بعملها، مرتهنة به، فإن كان العمل خيرا خلّصها وأعتقها من العذاب، وإن كان شرّا أوبقها في النار، أي إن المقصّر مرتهن بسوء عمله.
لكن أصحاب اليمين (والاستثناء هنا منفصل أو منقطع) لأنهم لم يكتسبوا ما هم به مرتهنون. وهم في جنات يتنعمون، يسأل بعضهم بعضا عن أحوال المجرمين في النار، ما الذي أدخلكم في جهنم؟ والمقصود من السؤال: زيادة التوبيخ والتخجيل.
فأجابوا بأن هذا العذاب لأمور أربعة: لم نكن في الدنيا نؤدي الصلاة المفروضة، ولم نحسن إلى أحد، فلم نطعم الفقير المحتاج ما يجب إعطاؤه، وكنا نخالط أهل الباطل في باطلهم، أي كلما غوى غاو غووا معه، وكنا نكذب بيوم الجزاء أي القيامة، حتى أتانا الموت. والتكذيب بيوم القيامة كفر صراح بالله تعالى. فهذه أسباب أربعة لازمتنا طوال حياتنا الدنيوية: ترك الصلاة، والزكاة، والخوض في باطل الكلام أو الغواية، وإنكار البعث والحساب والجزاء. وكون الأمرين الأولين سبب النار دليل على أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة.
فمن كان متّصفا بمثل هذه الصفات، فلا تنفعه يوم القيامة شفاعة شافع فيه، من ملائكة وأنبياء وصالحين، لأن مصيرهم إلى النار حتما.
ما الذي حصل لهم حال كونهم معرضين عن القرآن الذي هو التذكرة والموعظة؟
كأنهم في نفورهم عن الحق وإعراضهم عنه، من حمر الوحش إذا فرّت من رماة يرمونها، أو من أسد يريد افتراسها. وجمهور اللغويين على أن القسورة: الأسد.
وقيل: الرجال الأشداء.
أخرج البخاري ومسلم وأحمد حديث الشفاعة، وهو طويل، وفيه: «تشفع الملائكة، ثم النّبيون، ثم العلماء، ثم الشهداء، ثم الصالحون، فيشفّعون، ثم يقول اللّه تعالى: شفع عبادي، وبقيت شفاعة أرحم الرّاحمين، فلا يبقى في النار من له إيمان».
ومن صور عناد الكافرين: ما وصف اللّه تعالى: بل يريد كل واحد من هؤلاء المشركين أن ينزل عليه كتاب، كما أنزل على النّبي صلّى اللّه عليه وسلّم، فهم قد بلغوا من العناد حدّا تجاوزوا به أقدارهم. كلا (كلمة زجر وردع لهم) على اقتراحهم إنزال تلك الصحف المفتوحة المبسوطة، فلا يؤتونها، وهم في الحقيقة منكرون للبعث والحساب، لأنهم لو خافوا النار لما اقترحوا الآيات.
وكفاهم القرآن كتابا، حقّا إن القرآن تذكرة كافية لهم، فإنه خير تذكرة وموعظة، فمن أراد أن يذكره ويتّعظ به، اتّعظ واعتبر.
ولا يقع شيء في هذا الكون قهرا عن اللّه، لأنه المالك وصاحب السلطان، فما يذكرون القرآن ويتّعظون به إلا بمشيئة اللّه تعالى، الجدير بالتقوى، أي بأن يتّقيه ويخاف منه المتّقون، بترك معاصيه، والعمل بطاعاته. وهو أيضا الجدير بأن يغفر للمؤمنين ما فرط منهم من الذنوب، وبأن يقبل توبة التائبين من العصاة.
أخرج الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه والنّسائي عن أنس بن مالك رضي اللّه عنه: أن النّبي صلّى اللّه عليه وسلّم فسّر هذه الآية، فقال: «يقول لكم ربّكم جلّت قدرته وعظمته: أنا أهل أن أتّقى، فلا يجعل معي إله غيري، ومن اتّقى أن يجعل معي إلها غيري، فأنا أغفر له».